X أغلق
X أغلق

تواصل معنا عبر الفيسبوك
حالة الطقس
عبلين 27º - 14º
طبريا 28º - 12º
النقب 30º - 10º
الناصرة 28º - 14º
القدس 27º - 5º
حيفا 27º - 14º
تل ابيب 26º - 12º
بئر السبع 30º - 12º
ايلات 32º - 12º
مواقع صديقة
فنجان ثقافة
اضف تعقيب
24/09/2024 - 07:42:19 am
جامع أسرار مملكة الغرباء رفيف رضا صيداوي

جامع أسرار مملكة الغرباء

رفيف رضا صيداوي (جريدة النهار - 17 أيلول 2024)

منذ بدايات قراءاتي لإلياس خوري (1948 - 2024) خمنت أنه فلسطيني الجنسية أو لبناني من أصول فلسطينية، ولم أكن الوحيدة في تخميني هذا. كثر هم الذين خمنوا أو ظنوا أن ابن الأشرفية، "الجبل الصغير"، فلسطيني لشدة انتمائه غير الاستعراضي لفلسطين؛ إذ بدا انتماؤه هذا مجبولاً بالدم والروح والفكر منذ التحاقه مطلع شبابه بحركة "فتح" إلى لحظات صراعه الأخير مع المرض ومتابعته اليومية للعدوان الغاشم والمستمر على غزة.
شغلته القضية الفلسطينية لأنها قضية شعب عربيّ احتُلت أرضه من طرف إسرائيل عدوة العرب وبات تحرير هذه الأرض ضرورة قومية تخص كل العرب درءاً للأطماع الصهيونية والتغوُّل الإمبريالي وما يمثلانه من تهديد وجودي للعرب أجمعين. هذا التهديد الذي تنبأ به الراهب اللبناني جرجي خيري الروماني، إحدى شخصيات إلياس خوري الروائية في "مملكة الغرباء" (1993) المناهضة للانتداب البريطاني والاستيطان اليهودي عام 1940، فيما هو يحمل صليبه الذي كُتب عليه "هذا صليب العرب الذي سيحملونه مئة سنة" (ص 68)، خلال رحلة تشتُّتِه بين القدس والجليل وبين فلسطين ولبنان.
لكن يبدو وكأن المسار المخيِّب للقضية الفلسطينية ولحركة التحرير الفلسطينية وللحرب الأهلية الطويلة التي شهدها لبنان والتي بدت حرباً ضد الناس: "في ذلك اليوم من كانون الأول سنة 1975، اختلط كل شيء بكل شيء. هجم المسلحون على الناس، وصار الموت.(...) ومن يومها عمّت الأقنعة. لبس الجميع الأقنعة وماتت بيروت يومها لم تعُد تستطيع أن تمشي، خرج المسلحون كالمجانين، ولعلع صوت الرصاص فوق الأبرياء. يومها بدأت الحرب ضد الناس" (رحلة غاندي الصغير 1989، ص 193)، فضلاً عن تلازم المسارين اللبناني والفلسطيني في محطات تاريخية عديدة... يبدو أن ذلك كله قد انصهر لديه إبداعياً وجعل من رواياته، التي تعدى عددها الاثنتي عشرة رواية، نصاً واحداً مُحوَّراً عن رؤيته لواقع لبناني وفلسطيني وعربي تجري أحداثه ووقائعه بعكس ما كان يجدر بها أن تجري. فقادت نصوصه الروائية نحو معرفة حميمة وقريبة بهذا الواقع وسمحت بتملّكه جغرافياً ومناطقياً ووجودياً وسياسياً وطبقياً واتنياً وطائفياً.
توسَّل إلياس خوري إذاً بالفن الروائي وبحيَله لِلَمْلَمَةِ أشلاء الزمن اللبناني الفلسطيني العربي بغية قراءته من منظورٍ تاريخي غير أحادي، متعدد الأبعاد والمستويات والطبقات. هو الذي أبدى رأيه بالحرب اللبنانية مثلاً، في مقابلة أجراها معه الصحافي اللبناني يسري الأمير (مجلة الآداب اللبنانية، العدد 87، تموز/آب 1993، السنة 41) بقوله: "دائماً نتكلم عن الحرب اللبنانية وكأنها ظاهرة معزولة عن العالم. طبعاً في الحرب الأهلية هنالك شيء لبناني؛ هنالك تاريخ لبناني، هنالك تناقضات المجتمع اللبناني ثم هنالك الذاكرة الطائفية، ثم هنالك انفجار التوازن الإقليمي الذي أنشأ دولة الاستقلال عام 1943 وجددها عام 1958، وانهيار هذا التوازن تم بعد حرب حزيران 1967. هذه عدة عوامل لبنانية وإقليمية أدت إلى الحرب في لبنان…".
من الأشرفية ذاك الجبل الصغير الذي كان أشبه بالقرية الخالية تقريباً من البيوت، والتي تغطي كروم الزيتون وأشجار التين والصبار وغيرها مجالها المكاني، ومن حدائق منازلها وياسمينها، إلى منطقة الحمراء وتحديداً شارع المقدسي والشوارع المتفرعة عنه الموصلة إلى شارع بلس الذي جمع أجانب ولبنانيين من مختلف الإتنيات والطوائف، وتميز بالحضور الثقافي المتمثل بالجامعة الأميركية، إلى الأردن والبحر الميت، وفلسطين وعدد من مدنها… جعل إلياس خوري هذه الأمكنة ووقائها وشخصياتها الحقيقية، أي الواردة بأسمائها وحضورها الواقعي في العالم المرجعي للنصوص، أكثر صدقية من وجودها الفعلي في هذا العالم والعكس؛ أي أن الأمكنة والوقائع والشخصيات التي ليس لها حضور في العالم المرجعي صارت تبدو مع إلياس خوري وكأنها أكثر صدقية وإقناعاً مما لو كان لها حضورها الفعلي في هذا العالم المرجعي؛ بحيث يجد القارئ نفسه ضمن متخيل روائي ذي بعدين أو وجهين أحدهما واقعي وثانيهما متخيل وغرائبي، غالباً ما تكون الحدود بينهما واهية إلى الحد الذي يضطر القارئ معه إلى التساؤل عن حدود واقعية الأول، وعما إذا كان قد شكل حقيقة يجدر تصديقها.
هذا مثلاً ما قادتنا إليه رواية "الوجوه البيضاء" (1981) في تناولها حرب لبنان وما رافقها من موت عبثي غير مبرر ومن قتل وتدمير والكثير من السلوكيات العنيفة، إلى جانب السرقة والنهب والتهريب في ظل اختلال أمني وسياسي بلغ أقصى درجاته؛ إذ بدت كل هذه المظاهر التي أشارت إليها الرواية كدافع لتأمل قيم ما قبل الحرب، أي قيم النضال في سبيل القضايا الوطنية والقومية الكبرى، والتساؤل عن مقدار ما كان حقيقياً فيها.
لكن اللعب على بعدي الحقيقي والمتخيل والذي يصب دوماً في مصلحة العمل الفني نفسه، لم يكن بالنسبة إلى إلياس خوري ليثير أي التباس. هذا ما عبّر عنه في حوار مع يسري الأمير، من ضمن "حوارات مع روائيين لبنانيين"، نشر في مجلة الآداب اللبنانية، (العدد 9/10، أيلول/ت1 1998 السنة 46): "في الوجوه البيضاء"، والكلام لإلياس خوري، "هناك شخصية رئيسية هي خليل أحمد جابر الذي يبحث عمن قتل ابنه في الرواية. وشخصية خليل متخيلة لا مرجع حقيقياً لها في الواقع. أغلب الشخصيات لها مراجع في الروايات، ولكن شخصية خليل كانت دون مرجع فعليّ. ذات يوم منذ ثلاث سنوات أتى أحد أصدقائي وأخبرني أنه رأى شخصاً على كورنيش المنارة يدهن الحائط بالأبيض، ثم أخبرتني زوجتي عنه، وكذلك عدد من الأصدقاء، فذهبت إليه ورأيته، طبعاً لم يتكلم لأنه مجنون تماماً. لكن لحظة لقائي إياه كانت اللحظة الأكثر رهبة في حياتي؛ فقد رأيت المتخيل حقيقياً أمامي، بينما العادة هي أن يتحول الحقيقي إلى متخيل!. (...) وهكذا ترى أن لا شيء اسمه شخصية واقعية أو غريبة أو غير ذلك…".
بأسلوبه السردي المحاكي لأسلوب السرد العربي، ولا سيما النمط الحكائي العربي الذي تمثله "ألف ليلة وليلة"، والذي يقضي بإدراج قصة ما داخل قصة أخرى، ولدت الحكايات أو القصص عند خوري وتداخلت لتغدو كل حكاية مرآة لأخرى، وتعدَّد الرواة وتعددت الشخصيات وتعددت أزمنتها الخاصة لترفد خطابه الروائي وليفترق عن فكرة وجود حقيقة كلية أو يقين مطلق، انطلاقاً من أن الحقائق دائماً نسبية وتكتنفها الأسرار.
بهذا المجاز الروائي بنى خوري رواياته، تاركاً للقارئ مهمة تجميع الحقائق ولملمتها، حيث إن الراوي دائم التشكيك في ما يروي. ويروي الأحداث معلناً عدم تأكده من صحتها، فيما يتساوى مقدار معرفته بالأشياء بما تعرفه الشخصيات الروائية الأخرى عنها، لكونه راوياً يتساوى موقعه مع الشخصيات الأخرى وأحياناً مع الكاتب. فهو في النهاية راو لا يملك الحقيقة؛ لأن الحقيقة نسبية ولأنه راو لا يحسن التذكر ولا القيام بدوره كراو بحسب الصورة النمطية للراوي العارف بكل شيء. فألفينا القارئ في "رحلة غاندي الصغير" أمام كاتب/راو يقدم حكايته قائلاً: "أبحث عن إيقاع رحلة تمت منذ أعوام قليلة، فأشعر أنني أحفر في بئر عميقة. أنا لا أحفر، البئر تفتح فمها وتأخذني إليها. وكما سافر عبد الكريم في رحلته، كما سافرت أليس وأمين وملكو ونهى وليليان وأبو سعيد وريما وحصن و… أريد أن أسافر. فاكتشفت أنني أحفر في بئر تبتلعني" (ص 11).
وبمجاز "الغربة" نقل خوري أحوال لبنان وفلسطين كإحداثية قادرة على تأريخ سيرة أوطان اغتالتها الحروب بقدر ما اغتالتها كثافة العوامل الفاعلة في هذه الحروب وتداخلها. غربة أمكنة اختلفت كلياً عما كانته في الأمس، وغربة أشخاص عن أنفسهم وعن ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، حتى لتبدو الغربة متأصلة في الإنسان والوجود. إنها الغربة التي طبعت حياة السيد المسيح: "غريب في مملكة الغرباء التي حاول تأسيسها" (مملكة الغرباء، 1993، ص 38). وإذ التقاه الراوي أمام نهر الأردن بدا له "في كل مكان. يقف وسط المياه الضحلة التي حول الإسرائيليون مجاريها، فصار النهر كمجرى صغير موحل" (مملكة الغرباء، ص 29)؛ وهناك يتابع الراوي "في المجرى الصغير الموحل رأيته. السيد يقف وحده كغريب. وأنا أمامه" (مملكة الغرباء، ص 29).
فالسؤال "الذي يأتي في البدء هو الموت"، يقول الراوي في "مجتمع الأسرار" (1994، ص 47)، "إبراهيم نصار لم يكن غريباً في مدينته وبيته، لكنه مات كالغرباء" (ص 47)/ "هل الغريب هو إبراهيم، أم نورما الوحيدة في شارع لم يعد شارعها وبيت لم يعد بيتها؟" (ص 41)/ "سيدنا آدم عليه السلام هو الغريب الأول" (ص 41)/ "كلنا غرباء"، قال حنا. [...] الإنسان دايماً غريب" (ص 193).
شخصيات كثيرة من مواقع مختلفة وذات أدوار متنوعة لكن مهمشة، كالمعوقين والعجزة والفقراء من أبناء الأطراف والمهجرين واللاجئين الفلسطينيين وغيرها من الشخصيات المستضعفة التي يعيش بعضها ارتحالاً دائماً ومطرداً، عبّرت من خلال أزمنتها الخاصة المنسابة بين الماضي والحاضر والمستقبل عن غربة عائدة إلى تردي القيم الأخلاقية والفكرية والسياسية والوطنية وعن اهتراء هذه القيم وتلوثها. شخصيات مهمشة منعتها الحرب في لبنان من صنع تاريخها كما في رواية "مجمع الأسرار"، أو أباد الاجتياح الإسرائيلي أحلامها نهائياً كما في "رحلة غاندي الصغير"، أو أصبحت غريبة في "مملكة الغرباء"، وعبّرت عن مصير منفتح على المجهول للشعبين اللبناني والفلسطيني، وربما عن مزيد من الغربة…
هذا في الوقت الذي غدا فيه الفلسطينيون في "باب الشمس" غير قادرين على فهم ماذا يجري لهم ولقضيتهم. فبدوا مثل الدكتور خليل، وهو من الشخصيات الرئيسية في الرواية، مجرد هاربين من موتهم إلى ذاكرة حركة التحرير الفلسطينية الحية/ الميتة، المجسدة بشخصية يونس، يستنطقوها ويحاولون إحياء مجدها كي يعيشوا، وذلك على الرغم من تشكيكهم بهذا المجد، وعلى الرغم من كونهم غير قادرين على تصحيح أخطاء الماضي، أو على التحكم بمصيرهم الحالي.




Copyright © elgzal.com 2011-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع الغزال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت