X أغلق
X أغلق

تواصل معنا عبر الفيسبوك
حالة الطقس
عبلين 27º - 14º
طبريا 28º - 12º
النقب 30º - 10º
الناصرة 28º - 14º
القدس 27º - 5º
حيفا 27º - 14º
تل ابيب 26º - 12º
بئر السبع 30º - 12º
ايلات 32º - 12º
مواقع صديقة
فنجان ثقافة
اضف تعقيب
10/03/2025 - 01:15:01 am
ظلّ أزرق؛ بين الذات الأنثى وصراع الهويّة

ظلّ أزرق؛ بين الذات الأنثى وصراع الهويّة

بقلم: د. شيرين تناصرة برغوت

في طرحي اليومَ، أقدّم مادّة للتفكير  بأحداث الرواية، ومضاتٍ فكريّةً وقراءةً في بعضِ مشاهدِها، رغم أنّني أكيدةٌ أنّ الرواية ظلّ أزرق أعظم من أن يداخَل عنها في بحثٍ موجزٍ.

في بحثي عن إجابة لسؤالٍ؛ لماذا نقرأ الأدب؟ وجدْت ألف سببٍ وسبب، منها البحث عن شخوصٍ تشبهُنا داخل الكتبِ، ومنها ومنها، غير أنّني أقرأ الأدب كي أجد الحقيقةَ، أقرأ الأدب كي لا أجنّ أو كي أُشفى. في روايةِ ظلّ أزرق تظهر الحقيقةُ في أرقى أثوابها، ثوبِ الكلمةِ الحرّة التي تأتي منسابةً بأسلوبٍ سرديٍّ سلس، وصفٍ دقيقٍ يعتمد على لغةٍ قويّةٍ مُحكَمةٍ.  تحتاجُ رواية ظلّ أزرق قارئًا منفتِحَ العينَينِ وسيعِ البصيرة ليفهمَ المعنى العامّ والخاصّ المنبثق من تفاصيل الأحداث.

هذه الرواية التي همست رنين لي زميلتي في العمل ورفيقتي في رحلةِ الأدبِ، فكرتها همسًا في مطلع كانون ثان ٢٠٢٢. فزرعت في داخلي شوقًا لولادتها، لولادةِ فكرةٍ ناضجةٍ تنضح بحلمِ امرأةٍ عصريّة، تعيش شخوص حكايتها في عالمٍ افتراضيٍّ "شاشة زرقاء" مربّعة. وهيَ كافية لكي تجعل البطلة ضائعةً في سرابها، ضائعةً في وجه فكرةٍ عبثت بعقلها وأغرتها بعالمٍ لا يشبه عالمها. هكذا، قد تكون يافا بطلة ظلّ أزرق، أيَّ امرأةٍ مِنّا، تتعلَّم، تعملُ وتتزوَّجُ ثمَّ تُنجِبُ، وتمرُّ السنون لتفهمَ أنَّ الحياةَ خدَعَتْها، وأنَّ الزوج الّذي اقتَنَعَت به ليس كما عرفته.  في يومِنا، تعيش بعضُ النساء حالةً من البحث عن الذات، من الحاجة إلى فهمِ الحياة بمركّباتِها المختلفةِ، فإنّنا، معشرَ النساءِ، لم نعد بطلاتِ المطبخِ والأكلة الطيّبة فقط، إذ غدوْنا بطلاتِ الصراع اليوميّ في داخل البيت وخارجه. فضلًا عن أنّنا نعيشُ الأمومةَ، وهي وظيفتنا الطبيعيّة الأولى، والّتي قد ننحصر داخل دون أن ندري، فتغدو نقطة ضعفنا وقوّتنا في آنٍ واحدٍ. البيت بالنسبة للنساء ينبوع الحياة، والعائلة موئلٌ يتوجّب أن يكونَ غناها ولكنَّه قد يكون قبرًا تمامًا كما كان بالنسبة لصديقة يافا ميسان. ميسان الّتي تركتَ أحلامَها وراءها ولحقِت حبَّها، ليغدوَ سِكّينًا يُشهَر في ووجهها.

تُروَى هذه الأحداث وغيرها ضمنَ اللّعبة الافتراضيّة الّتي تستغلّها الكاتبة كي تكشفَ حقائقَ كثيرةً، حقائقَ لا يحكيها إلّا الأدبُ الحرُّ والكلمةُ اللاذعةُ، هي هذه القوّة  التي تتمرّسُ بها الكاتبة، فقد نَجَحَت في وضعِ مرآةٍ أمام المجتمعِ لتُظهِرَ كثيرًا من عيوبِهِ.

تحمل يافا اليافعةُ الجميلةُ اسمًا يعكسُ معناه البطلة قلبًا وقالبًا، فتقعُ ضحيّةَ خدعةٍ إلكترونيّةٍ، تأخذُها إليها تفاصيلُ يومِها الصعبةُ، وأحداثُ حياتها الصادمةُ، مع ذلك تنجحُ بطلُتُنا الحائرةُ في خوضِ مشكلاتٍ عدّةٍ. على رأسها سؤالُ الهُويّة؛ هذه الهويّة الّتي تعاني شرخًا، في وقتٍ باتت في الهويّة شرذمة حقيقيّة، البحث عن الذات ومكوّناتها هو بحثُ يافا المستمرّ، وحلقة ميسان المفرَغة، وسؤال هيثم الدائم، وحيرة السيّد سامر.. كلّ شخصيّة في الرواية تعيشُ صراعها الخاصّ بغيةَ  بلورةِ تصوّرٍ حقيقيّ عن الذات. هذا الأمر واحدٌ من العوامل التي أعطت القصّةَ واقعيّة خاصّةً تلامِسُ قلبَ من يقرأها فتشدُّه إلى آخر كلمةٍ فيها.

في رحلتِنا مع يافا، نسيرُ في مستنقعِ هذا العالمِ، فنشمُّ رائحةَ عاداتِه الفاسدةَ، ونحمل جثثَ ضحاياه، ونلعنُه ألفَّ مرّةٍ، لمجرّد أن نفهمَ بعضَ الحقائقِ. والسؤال: لماذا هذا الوصف؟ الإجابة تأتي  عبر نظرةٍ متعمِّقةٍ إلى بعضِ مشاهدِ وشخصيّاتِ الرواية، فإنّنا بنظرنا الثاقب نحوَ تفاصيل السردِ والحوار الّتي تفصلُها في بعضِ الأحيانِ مقاطعُ شعريّة، يمكننا توضيحُ باعِث هذا الوصفِ:

  • مشهدٌ يثير الأمومةَ النابضة بحبّ أولادِها حتّى المنتهى؛ كيان ابنة يافا الّتي تعاني من ملاحظات أترابها في فريق كرة قدم وتعاني من مدربّها الّذي يتعامل معها بصيغة المذكّر  وكأنّه بهذا الأسلوب يجعل رياضةً من هذا النوع للرجال فقط، والسؤال: من جعل هذه الرياضة حكرًا  بالرجال؟
  • شخصيّة فيفيان الّتي قد تثير القارئةَ الحكيمة؛ فكيف تتصرّف مجرّدُ موظَّفةٍ بسيطةٍ بفظاظة مع نساءٍ أخريات وبلطفٍ مع سيّدِ العمل. هذه الازدواجيّة هي سمةُ الكثير من النساء، اللواتي يعكسن حالة قد نسمّيها اضطهاد المرأة لنفسها، قد تأخذ هذه الشخصيّة أشكالًا عدّة، ولكنّها تبقى بحرب مستمرّة مع ذاتها، أو مع امرأة أخرى، تصنع هذه الدينامكيّة بيئةً مغايرةً بين النساء أنفسِهنَّ، الأمر الّذي لا نجده كثيرًا في بيئةٍ رجوليَّةٍ، وهو مصدر ضعف للمرأة وبنات جنسها،  هذه مادّةٌ تطرحها الكاتبة لكي تفكّر بها النساء وتتبصّرْنَ.
  • تبقى كيان ابنة يافا الحلقة الأضعف في حياتها، فهي ثمرةُ حبِّها وكلُّ حياتها، وهي الّتي تأخذُها إلى أماكن لم تفكّر بها قبلًا عبر أسئلتها. ابنتها هي الّتي تجعلُها، وتجعلنا نتساءل: بمَ تسمو المرأة عن الرّجل؟ وكيف يمكن للرجل أن ينعتَ زوجتَه ببنت الكلب بمجرّد أنّها تجرّأت على السؤال، أو لأنّها أنجبت له توأم بناتٍ لا صبيًّا.
  • من الحواريّات الأخرى الّتي تشدُّ القارئَ حوارُ يافا مع صديقها في العملِ هيثم، حيثُ تسلّط الكاتبة الضوء على التصوّر الذاتيِّ للأُنثى؛ فكيف تنظر الأنثى إلى نفسها؟ وكيف تفكّر في نظر الآخر لها؟ تُربّى الأنثى في مجتمعِنا على الخوف، فيرافقها كلَّ حياتِها كظلِّها، يرافقُها حتّى يصبحَ جسدُها سلاحًا ذا حدّين، فهو الجمال الآخّاذ و محطّ الشهوة، فمنهُ تولَد الحياة وتُستهلَك...

كم رجوْتُ أن أقول للبطلة: "نعم يا يافا، كم هو صعبٌ أن نُخلقَ نساء، صحيح أنّنا ننعمُ بميّزات كونيّة مختلفة، فليس للولادةِ أن تكونَ دونَ امرأةٍ تحملُ في رحمِها الحياةَ،  إلّا أنّنا ورغم سموّنا الكيانيّ، نبقى عرضةً لكثيرٍ من الانتهاكات لمجرّد أنَّنا خُلِقنا نساءً.

بهذه النغمة الحسّاسة المرهَفة، تؤسّس الكاتبة لتغيير مجتمعيّ في المفاهيم التربويّة الجندريّة، فتخرج المرأة من محيط خصر الجينز الضيّق، ومن دائرة الجسد الّتي تحصرها فيها المُسلّمات المجتمعيّة وقد باتت تتعامل معَ النساء جسدًا لا روحًا، شكلًا لا فكرًا وكِيانًا خاصًّا. هكذا، وبفعل مشاهد أخرى تخلقها الكاتبة، تُنفَضُ سَجّادةٌ  تخبو تحتها ألفُ مشكلةٍ مُجتمعيّة؛ كالزوجِ الخائن، المرأةِ الضّعيفة، الفتاةِ الّتي تحبّ كرة القدم، الأمّ الّتي تربّي أولادها وحيدةً فتصبح في ليلةٍ وضحاها ثكلى تتلفّظ أوجاعها آهاتٍ.

تدخل الكاتبة رنين عبر هذه النفضّة عالمًا لطالما كانَ مُعتِمًا؛ التحرّش الجنسيّ العائليّ، فها هي فوفو الصغيرة تُلاحقها نظرات عمّو وجيه الّذي بدا عجوزًا عاجزًا وهذا عُذره الّذي لم يمنعه من التحرّش بالطفلةِ فوفو حتّى أصبح لزامًا عليها إغلاقُ بابِ غرفتها والانتباه لما تلبسه، هل حقًّا هذا ما توجّب على الطفلةِ؟! والسؤال ما الذي  تَوجَّب على العمّ وجيه؟!

يافا، ميسان، فيفيان، سامي، كيان، هيثم والعم وجيه كلّها أسئلة تطرحُها كاتبة ظلّ أزرق، فنطرحُها نحنُ قرّاءَها، فنشعِلُ التفكير الذي لا ينطفئ فتيلُه بأعمدة هذا المجتمع وقد أمست هزيلةً، فأضحى علينا، نحنُ أبناءَ هذا الجيلِ البدءُ بالبناء من جديد، بناءِ عالمٍ يعترفُ بمفاهيمَ جندريَّةٍ مختلفةٍ، لا يُخفي عيوبَه تحتَ سَجّادةِ التقاليد، ولا يقتلُ نساءَه عندما تغضبْن في وجه الخيانة، ولا يقَبْلَ التحرُّشَ والاعتداء لأعذارٍ واهيةٍ كالخرف أو المرضِ. كلُّها خطايا تَترُكُ أَثرًا حتّى نهايةِ العمر، كلّها خطايا لا تقبل الغفران. متى خرجَ المجتمع من قمقم التفاهة غدا واعيًا، فاهمًا، مدركًا لقيمة أن تمشي المرأة مرفوعة الرأس لأنّها شريكةٌ لا خادمةٌ، ومعنى أن يُمسِك الرّجل يدَ امرأتِه حين يمشيان سويًّا في الطريق العامّ، حتّى ولو مرّ على زواجِهما دهرٌ، ومعنى أن يعيش أطفالُها في عائلة تسوسُها قواعدُ التفاهم والتنازل المتبادَل، حينَها سوف نكون في مصافّ المجتمعات الراقية والمتقدّمة.

وها هو كلامُك يا رنين بصحبةِ الظلِّ الأزرق يؤكّد ما جاء:

حيثُ قلتِ: "إنّها الأمورُ الاعتياديّة  في هذا العالم الوسخ، الّتي عليّ أن أدرّبَ ذاتي عليها  لئلا تُصدم عندما تحدُث كلّ الأمور الّتي باتت نادرة الحدوث؛ حينَ يبقى شخصٌ في الخمسين على قيد الحياة مثلًا، حينَ تذهبين على الشاطئ وتعودين، حينَ تُلقي عليّ جارتي، في كاملِ جلدِها، تحيّة الصباح، حين لا تمتدّ يدٌ نجسةٌ من أبناء العائلة على ابن الثامنة، وحين تكتشفين أنّ الشخص الذي ظننت أنّه يمكنك الوثوق به يبدو حقًّا أهلا للثقة". إنّها روايتك يا رنين، أهلٌ للقراءة.




Copyright © elgzal.com 2011-2025 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع الغزال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت