قطار الموسيقى: رحلة تربوية في ذاكرة الفن العربي"

بقلم:د.جهينة عمر الخطيب

يأتي عرض قطار الموسيقى ضمن مشروع ثقافي–فنّي يهدف إلى تعزيز الثقافة الموسيقية لدى الأجيال الناشئة، وربط الطفل العربي بإرثه الفني العريق ونشكر هذه المبادرة من قبل المركز الجماهيري في شفاعمرو والسيدة عزيزة دياب  مديرة قسم الثقافة في بلدية شفاعمرو وإسهام بلدية شفاعمرو لدعمها ورعايتها لهذه المشاريع الهامة. وقد حضرتُ هذا العرض برفقة ابنة أختي، طالبة الصف السادس، الأمر الذي أتاح لي مراقبة التجربة من زاويتين: زاوية المتلقّي الراشد، وزاوية الطفل المتلقي. وقد اتّسم العرض بطاقة فنية تربوية واضحة تستحق التوثيق والدراسة.

تعتمد مسرحية قطار الموسيقى على أسلوب الرحلة الافتراضية عبر "قطار" يتنقّل بين أربع  محطات عربية مركزية في تاريخ الموسيقى: مصر، لبنان، العراق وفلسطين.
ويُعدّ هذا البناء الدرامي وسيلة تربوية بارعة لشدّ انتباه الأطفال، إذ يمزج بين الحكاية، الأداء المسرحي، والعرض الموسيقي المباشر. وتهدف المسرحية إلى:

1. تعريف الجيل الجديد بعمالقة الموسيقى العربية بأسلوب سهل وماتع.
2. كسر الفجوة المعرفية التي تفصل الطفل اليوم عن الموروث الموسيقي العربي.
3. إحياء الذائقة الفنية في ظل التلوث الثقافي والموسيقي الذي يحيط بالأطفال.
4. تعزيز الهوية والانتماء من خلال ربط الطفل بتاريخ حضارته الموسيقية.

وقد نجح الموسيقار عامر نخلة، صاحب الفكرة والإعداد الموسيقي، في بناء تجربة تعليمية–فنية تخاطب الطفل بذكاء وبساطة في آن واحد.

محتوى الرحلة الموسيقية

1. المحطة المصرية

بدأ القطار رحلته في مصر مع روّاد النهضة الموسيقية:

• سيد درويش: مؤسس الأغنية الوطنية الحديثة.
• محمد عبد الوهاب: المجدّد الأكبر في الموسيقى العربية.

قدّم العرض مقتطفات موسيقية قصيرة تُبرز بصمتها الأسلوبية، مع شرح ملائم لفئة 9–12 عامًا.

2. المحطة اللبنانية

انتقلت الرحلة إلى لبنان حيث الأخوين رحباني وصوت الشرق فيروز، وذلك عبر عرض بصري–موسيقي يُبرز جماليات المدرسة الرحبانية وتجديدها.

3. المحطة العراقية

مع المطرب الكبير ناظم الغزالي، أحد أبرز الأصوات التي صاغت هوية الغناء العراقي.

4- المحطة الفلسطينية التي أكدت على أن فلسطين استقبلت هذه الثقافات بشغف في أرضها .

ورغم أن ساعة واحدة لا تكفي لتلخيص تاريخ الموسيقى العربية، فقد نجح العرض في تمرير الأساسيات وبناء فضول معرفي لدى الأطفال.

لقد لامستُ الأثر الحقيقي للمسرحية في طريق عودتي مع ابنة أختي، التي عبّرت بحماس عن إعجابها بالعرض. قالت إنها كانت تعرف صوت فيروز فقط لأنها تسمعه صباحًا مع أمّها أثناء ذهابها للمدرسة ، لكنها تعرّفت للمرة الأولى على سيد درويش، عبد الوهاب، وناظم الغزالي. هذا التحوّل في وعي الطفل يؤكد قيمة المسرح حين يُستثمر تربويًا وفنيًا.

كما شهدتُ تفاعل الأطفال المستمر مع الممثلين والأغاني، مما يشير إلى نجاح الأسلوب القصصي–الغنائي في بناء علاقة حيّة بين الطفل والمعلومة الموسيقية.

كان الإخراج، بإشراف وسيم خير، متقنًا ومتوازنًا بين الحركة المسرحية والجانب التعليمي. لم يطغَ الشرح على الفن، ولم تُقدَّم الموسيقى على حساب السرد المسرحي.

وتميّز أداء كل من:

• يارا زريق
• رامي صليبا
• عطاف بشارات

بالقدرة على مخاطبة الأطفال بلغة قريبة منهم دون تسطيح أو مبالغة، وهو تحدٍّ أساسي في مسرح الطفل.

لقد قدّم  الموسيقار عامر نخلة معالجة موسيقية راقية تراعي أذن الطفل، وتستحضر روح التراث بأسلوب حديث، مما جعل الموسيقى عنصرًا تعليميًا ووجدانيًا في آن واحد.

ويشكّل بيت الموسيقى مؤسسة ثقافية نفتخر بوجودها في شفاعمرو، وقد أثبت مرة أخرى دوره الريادي في رفد المجتمع بعروض هادفة.
تُعد مسرحية قطار الموسيقى نموذجًا يُحتذى في مسرح الطفل التربوي، يجمع بين الجمالية الفنية والقيمة التعليمية.

• الفئات العمرية المقترحة:
  على الرغم من أن المسرحية موجّهة لجيل 9–12، فإنّني أوصي بشدة بأن تُعرض لطلاب الإعداديات والثانويات أيضًا، نظرًا للفجوة الكبيرة في معرفة الأجيال الحالية بتاريخ الموسيقى العربية.
  ففي  ظلّ تفشّي العنف وتلوّث الذائقة الفنية في فضاء الطفل، تأتي مثل هذه المسرحيات لتعزّز الذوق الرفيع، وتعيد بناء العلاقة بين الطفل وقيم حضارته.

وصفوة القول : تثبت مسرحية قطار الموسيقى أن الفن قادر على أداء دور تربوي عميق إذا ما قُدّم برؤية وخبرة. شكري وامتناني لكلّ من ساهم في إخراج هذا العمل إلى النور: الموسيقار عامر نخلة، المخرج وسيم خير، طاقم الممثلين، ومعهد بيت الموسيقى. لقد قدّموا عرضًا لا يمنح الأطفال المتعة فحسب، بل يعيد إليهم جزءًا من ذاكرة موسيقية عربية تستحق أن تُحيا.