X أغلق
X أغلق

تواصل معنا عبر الفيسبوك
حالة الطقس
عبلين 27º - 14º
طبريا 28º - 12º
النقب 30º - 10º
الناصرة 28º - 14º
القدس 27º - 5º
حيفا 27º - 14º
تل ابيب 26º - 12º
بئر السبع 30º - 12º
ايلات 32º - 12º
مواقع صديقة
اجتماعيات
اضف تعقيب
26/09/2024 - 09:32:17 am
عبلة عبود: أيقونة يافا التي حملت أمانة الغد

عبلة عبود: أيقونة يافا التي حملت أمانة الغد

بقلم :د.سمير حاج 

في الذكرى الثانية عشرة لرحيل المربية عبلة عبود أسعد (1941- 2012 ). يافا فوّاحة الشذا سابقا. يافا حاضرا، طائر فينيق يلملم رماده، قبالة الميناء، ويطير محلّقا بشموخ، في سماء حزينة، مسفوعة بأسراب السنونو. يافا «موناليزا» جديدة، طافحة بالبسمة والفرح، رغم المأساة، بفضل أناس صنعوا الغد الآتي، وزرعوا فوق الحطام والركام وردا وفُلا. يافا قوس قزح في سماء معفّرة بغبار الهدم، وحقائب مدرسية مثقلة بالكتب، ينوء بها صغار يزحفون للمدارس، مع انفلاق قرص الشمس، بفضل من غنّى للحياة، وزرع مواسم الفرح المقيمة.
إذا كان التاريخ يكتبه الأقوياء، كما يقول الساسة، فالحاضر المنير يصنعه معلّمو الأجيال «المعذّبون في الأرض». وقديما قال الحكماء: «من فتح مدرسة أغلق سجنا».من بين صخور ميناء يافا العتيق، يأتي لحن ملاّح حزين، مُترع بالدموع على انطفاء شمعة يافيّة. هنا جلستْ وزملاءها، في مدرستها «تيراسنطا الثانوية» الشامخة قبالة البحر في يافا، رسولة علم وسفيرة مجتمع وقبطان صرح ثقافيّ بدءا من عام 1983، ثم مديرة أولى للمدرسة الأورثوذكسية في الرملة عام 1991. هنا تفتّحت وماست، أكمام أزهار البرتقال الفوّاحة، وأماليد شجيراتها الخضيلة. هنا وقفت لبؤة، رابضة في عرينها الثقافيّ، أمام أسراب النوارس. هنا علا صوتها ،على هدير البحر في يافا، ويافا الساكنة فيها، لا تخاف هدير البحر، من قال إنّها تخافه! هنا نثرت/نشرت/زرعت ترانيم الغد الآتي، وعطر الماضي، لأشبال يافا واللد والرملة. هنا كرّست بالكلمة الطيّبة للأصالة، والعطاء والانتماء للمجتمع اليافيّ. هنا حثّت على الاستنارة، بشعاع وألق ماضي يافا العريقة، والتمسك بالهوية اليافية الأصيل. هنا تألمت، لما آلت إليه يافا الجديدة، الممسوحة بالحزن والألم، وتبدّل أسماء الأحياء والشوارع. هنا زرعت الزنابق والورد والفلّ، وشجيرات البرتقال والليمون، في البيارة الآفلة. هنا أضاءت أقمارا وشموسا ليافا «مدينة الزهور» «الواحة التي أفلتت من الجنة» في قاموس ابنها، القاصّ محمود سيف الدين الإيرانيّ.
عرفتها عام 1984، حين جئت إلى يافا للتدريس اللغة والأدب العربيّ ، في مدرسة «تيراسنطا الثانوية» ومكثت فيها أحدَ عشرَ عاما. المدارس قليلة، والمعلّمون أقلّ. وكان طلاب اللد والرملة يعيشون مع ظرفي الزمان صباحَ مساءَ، ذهابا وإيابا، في رحلة المعاناة المدرسيّة. وكانت هناك بيّارة اسمها يافا، يحجّ إليها الطلاب من كلّ فجّ. وكانت هناك مديرة رائدة ومميّزة يناديها الطلاب «الست عبلة» تتمتّع بصوت جهوريّ و»كاريزما «رهيبة. لها حضور مميّز، وقدرة على التأثير والإقناع، أشبه بـ»بطلات» الروايات الكلاسيكية الإنكليزية. لها ميزة قيادية رهيبة، يهابها الطلاب والمعلّمون ويحترمونها في آن واحد، لصدقها واستقامتها. حضورها «ريموت كونترول» يسيّر الأمور بدقّة وإتقان، ماهرة في ترويض المستمع، معلّما كان أم طالبا أم أهلا. قرارها صارم، لا استئناف عليه، خاصّة إن كان يتعلق بنظام المدرسة، من لباس وهيئة. فالشارة الضوئية الحمراء في قاموسها وناموسها، لا يمكن عبورها.
في كل صباح، كان يقف أمام غرفتها، سرب من «المحتجزين والمحتجزات» حتى إشعار آخر في انتظار الآتي، وصوتها الجهوريّ المترع بالوصايا والتوجيهات، يمزّق صمت جدران المدرسة، ويكسر موج البحر الهادر قبالتها. مرأة حديدية، ثابتة في رأيها، مثابرة ونشيطة، تدور كعقارب الساعة، لم تأل جهدا أو دربا، إلا وطرقتهما من أجل الصعود بالمدرسة، ورفعة المجتمع اليافيّ. تولّت الإدارة، في زمن الجديبة والقحل. رائدة نسْوية في زمن قلتّ فيه الرائدات! كانت طائرا يغنّي، والطيور بعد نائمة في وكناتها. فقد حصّلت لمدرسة « تيراسنطا الثانوية» العلامة الواقية، في أواسط الثمانينات، حين كان الأمر يعدّ إنجازا وسبقا، واستقطبت كوكبة من المعلمين الأكفاء، في الموضوعات كافة.
عدت إلى أوراقي المشتّتة، «الأرشيف اليافيّ» الصغير، فقرأت فيها نشاطات اجتماعية وتربوية وتثقيفية جمّة، لندوات ومهرجانات ومسرحيات و«ماراثونات» رياضية، ومحاضرات وحفلات تخرّج، وأعراس ثقافية، لا تعدّ ولا تحصى. كانت المدرسة عبارة عن «يافا الصغيرة» إبّان إشعاعها وازدهارها، و«خليّة نحل» أو «حديقة أزهار» عطرة. تباركت الحياة بالذين يعطون لمجتمعاتهم أكثر ممّا يأخذون. طوبى لليد التي تبني وتعمّر. مرحى للذين يسهرون على غرس الكلمة الطيّبة في مجتمعاتهم. ها هي الزنابق الحانية في حديقتك، تشرئب ويضوع عطرها في اللد والرملة ويافا المدينة العتيقة..
يافا بالغار والوقار، تستذكرك شخصيّة تنويريّة فذّة، تركت بصمات وكلمات مضيئة، في كتاب يافا التعليميّ والتثقيفيّ. مربيّة فاضلة، ساهمت في صنع وصقل أجيال يافيّة شامخة وحضاريّة، غدت اليوم صاحبة رسالة علم وتثقيف وقيادة وتوعية، ومنارات مضيئة في جبين المجتمع اليافي. سيكتب في سفر يافا في القرن العشرين، أنّها من النساء الرائدات في مجتمع يافا الحديث، ومن الرجالات الأفذاذ الذين صنعوا أجيالا يافيّة، يفخر بها القريب والغريب. ما أحوج مجتمعنا إلى نساء تنوير أمثالك. تباركت الحياة بأمثالك.
وكما قال جبران خليل جبران : «لا تعطوا الرجل العظيم بل خذوا منه هكذا تكرمونه!» .
ولتبق يافا محجّة أدب وفرح دائم، كما كانت في ألقها، وكما رسمت في كلمات الشاعر محمود درويش:
« أحجّ إليك يا يافا
معي أعراس بيّارة
فناديها عن الميناء
عن الميناء..ناديها
وشدّيني وشدّيها
إلى أوتار قيثاره
لنحيي سهرة الحاره
وشوق الحبّ للحناء! ".




Copyright © elgzal.com 2011-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع الغزال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت