تواصل معنا عبر الفيسبوك ![]() | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
نشر أربعة أطباء، ثلاثة منهم تطوعوا مؤخرا في قطاع غزة، مقالا مشتركا، في مجلة The New England Journal of Medicine، عن إبادة مقومات الحياة والخدمات الطبية في غزة. والمجلة هي واحدة من أعرق وأهم المجلات الطبية في العالم، وتُعدّ المرجع الأول عالميًا في مجال الأبحاث والمقالات العلمية والطبية المحكمة. ووصف المقال حرب الإبادة بأنها خلقت دمارا يفوق الدمار في هيروشيما وناغازاكي، والأطباء هم: د. فيــروز سيدهـوا، د. ياسمين أبو فريحة، د. عكيفا لايبوفيتش و د. نفتالي كامينسكي (وصفهم في نهاية التقرير).
جاء في المقال: لقد عمل ثلاثة منا مؤخرًا في مناطق حرب، غير أنّ ردود فعل المجتمع الطبي الأميركي على تجاربنا كانت مختلفة تمامًا. عندما وصف الدكتوران لايبوفيتش وأبو فريحة تجربتهما في معالجة مدنيين أصيبوا في الهجوم الذي قادته حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 على إسرائيل، قوبلت روايتيهما عن جروح الرصاص والحروق البالغة والإصابات المعقدة بالاهتمام والتعاطف. أما عندما تحدث الدكتور سيدوا عن تجاربه التطوعية في قطاع غزة مرتين منذ مارس/آذار 2024، فقد واجه في الغالب الريبة أو العداء.
ويضيف: في غزة، وجد سيدوا نظامًا صحيًا منهكًا بفعل الحصار واقتحامات المستشفيات ونقص المعدات والإمدادات، وقوى عاملة تتعرض باستمرار للعنف القاتل. وبين زيارتيه اللتين فصل بينهما أقل من عام، قُتل ستة ممرضين وطبيبان ممن عمل معهم في هجمات إسرائيلية. كما اعتُقل عدد أكبر من العاملين الصحيين دون توجيه تهم، وتعرضوا للتجويع والتعذيب.
ويتابع: في 18 مارس/آذار 2025، وخلال زيارته الثانية، خرقت إسرائيل وقف إطلاق النار بهجوم جوي مفاجئ أودى بحياة أكثر من 400 شخص في عشر دقائق. من بين مئات الجرحى، وصل 221 إلى مجمّع ناصر الطبي حيث كان سيدوا يعمل متطوعًا. كان نحو نصف الإصابات البالغة في أطفال دون سن الثانية عشرة. الطبيب الذي تولى فرز الحالات لم يمضِ على تخرجه أكثر من عامين، قضى سبعة أشهر منها في السجن الإسرائيلي. بعد 45 دقيقة من بدء العمل، استقبل جثمان والد زوجته. وبعد صلاة قصيرة، عاد إلى عمله مواصلًا العمل 16 ساعة متواصلة قبل أن يزور قبر والد زوجته، ثم عاد مجددًا إلى المناوبة الليلية.
ويواصل: من بين الأطفال الذين عالجهم ذلك اليوم، لا يزال سيدوا يتذكر شام ذات الخمس سنوات وإبراهيم البالغ 16 عامًا. أجرى لشام عملية فتح صدر وتصحيحًا للطحال، ورغم إصابة شظية في دماغها الأيسر، تحدثت بعد إزالة أنبوب التنفس، مطالبةً والدتها بالبيض والعصير. انهارت الأم باكية على الأرض: «من أين لي أن أجد مثل هذه الكماليات في أرض المجاعة؟». أما إبراهيم، فأجرى له سيدوا فتحة قولون مؤقتة لإصاباته بالشظايا، وتعافى سريعًا، لكن في الليلة الأخيرة قبل مغادرة سيدوا المستشفى، قصفت إسرائيل جناحه، فدمرت قسم الجراحة الرجالية وقتلت إبراهيم وزميله البالغ 56 عامًا الذي زعمت إسرائيل أنه رئيس وزراء غزة. لاحقًا استهدفت إسرائيل المستشفى مرتين إضافيتين، ما أدى إلى تدمير أكثر من 50 سريرًا ومقتل ما لا يقل عن 23 مريضًا وصحفيًا ومسعفًا.
ويصف: عندما عاد سيدوا إلى بلاده وروى تجاربه، لم يتعاطف الجميع معه. قال له أحد الزملاء: «كل ما رأيته هناك هو خطأ الفلسطينيين أنفسهم — إنهم يريدون أن يموت أطفالهم». وبعد نشره شهادات 65 عاملًا صحيًا متطوعًا عن إصابات قاتلة يُعتقد أنها كانت موجهة ضد أطفال فلسطينيين، اتهمه بعض الأطباء علنًا بتقديم «روايات كاذبة أو مضللة»، بل وبنشر «فرية دم».
ويضيف: إن الهجمات الإسرائيلية على غزة، والمدعومة من الولايات المتحدة، تمثل واحدة من أشد وأوسع عمليات العنف العسكري ضد سكان مدنيين في القرن الحادي والعشرين. وقد خلص باحثون فلسطينيون وإسرائيليون ودوليون، وعدة منظمات إغاثة وحقوق إنسان — من بينها حديثًا منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان – إسرائيل (PHRI) ولجنة تحقيق تابعة للأمم المتحدة — إلى أن أفعال إسرائيل ترقى على الأقل إلى جرائم ضد الإنسانية بموجب القانون الدولي.
وفقًا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية ووزارة الصحة في غزة، قُتل منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 أكثر من 65,000 فلسطيني، بينهم نحو 20,000 طفل. ووفق منظمة أوكسفام، فقد قُتل في غزة خلال العام الأول من الحرب عدد من النساء والأطفال يفوق نظيره في أي صراع آخر خلال عام واحد. معدل وفيات الأطفال في غزة يزيد بـ134 ضعفًا عن نظيره في حرب أوكرانيا. وتشير دراسات متعددة إلى أن هذه الأرقام أقل من الواقع.
ويؤكد: دمار النظام الصحي في غزة كارثي. فلا تعمل أي من عيادات الرعاية الأولية بكامل طاقتها، و38% تقدم خدمات جزئية فقط. وتفيد منظمة الصحة العالمية بأن 94% من مستشفيات غزة تضررت بشدة أو دُمّرت. وأسفرت هذه الهجمات عن مقتل نحو ألف مريض، سواء بسبب العنف أو انقطاع الرعاية. ويعمل مجمّع ناصر الطبي في خان يونس — وهو المستشفى الكبير الوحيد الذي ما زال يعمل جزئيًا — بطاقة تفوق 300% من قدرته، بينما يواصل استقبال العشرات أو المئات من الإصابات اليومية. ووفق PHRI، قُتل ما لا يقل عن 1580 من العاملين الصحيين (8.2% من القوى العاملة)، واعتُقل 301 منهم حتى 18 سبتمبر/أيلول 2025 دون توجيه تهم. ويشمل ذلك أبرز الأطباء والممرضين ومديري المستشفيات في غزة، ما يجعل تعافي النظام الطبي مستحيلًا.
تمنع القوات الإسرائيلية دخول المعدات الطبية، مما يضطر الطواقم إلى إعادة استخدام الأدوات ذات الاستخدام الواحد مثل أنابيب الصدر والتنفس رغم انعدام مواد التعقيم والماء النظيف. وقد أدى انهيار النظام الصحي إلى حرمان السكان من أبسط الخدمات كالتطعيمات والولادة الآمنة، فضلًا عن الرعاية الجراحية المعقدة. وتدمير مستشفى السرطان الوحيد في مارس/آذار 2025 ترك 11,000 مريض بلا علاج، توفي منهم 338 لاحقًا. كما انخفض عدد أجهزة التصوير المقطعي من 19 إلى 7، وأجهزة الرنين المغناطيسي من 7 إلى صفر. ومن بين 1100 مريض غسيل كلوي في أكتوبر 2023، بقي أقل من 650 على قيد الحياة بعد تدمير 48% من أجهزة الغسيل. وأفادت دراسات بأن متوسط العمر المتوقع في غزة انخفض من 75.5 إلى 40.6 عامًا.
حجم الدمار في غزة مذهل. فقد ذكرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية أن معظم المدن والمخيمات في القطاع — بما فيها رفح وجباليا وبيت حانون وغزة وخان يونس — قد مُسحت تقريبًا عن وجه الأرض، في دمار يفوق ما أحدثته القنابل الذرية في هيروشيما وناغازاكي، ويتجاوز ما شهدته حلب والموصل وسراييفو وكابول مجتمعة.
أدت هذه التدميرات الممنهجة للبنية التحتية إلى المجاعة الكارثية التي طالما حذرت منها المنظمات الدولية. فمن خلال منع دخول المساعدات بين 2 مارس و18 مايو 2025، استخدمت إسرائيل التجويع كسلاح حرب. انهيار منظومة توزيع الغذاء واستبدال أكثر من 400 مطبخ مجتمعي بأربعة مراكز توزيع عسكرية عمّق الأزمة، وأدى إلى مقتل عشرات الفلسطينيين يوميًا أثناء بحثهم عن الطعام. ووفق التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، تعاني جميع الأسر تقريبًا من انعدام الأمن الغذائي، و30% منها تواجه مجاعة كارثية. وحتى 18 سبتمبر، تم توثيق 432 وفاة مرتبطة بسوء التغذية، منها 146 طفلًا.
رغم هول المأساة، ظلّ المجتمع الطبي الأميركي في معظمه صامتًا. عندما أبلغ الدكتور كامنسكي مجموعة أطباء بأن أكثر من 600 عامل طبي إسرائيلي وقعوا رسالة احتجاجًا على استهداف الطواقم والمنشآت الطبية في غزة، تلقى توبيخًا رسميًا اعتبر رسالته «سياسية». وقد تدرب كامنسكي في مستشفى هداسا جبل المشارف في القدس، الذي يضم نصبًا تذكاريًا لـ74 عاملاً طبيا قُتلوا في حرب 1948. وبالنسبة له، كما بالنسبة لنا جميعًا، فإن الحياد الطبي ليس مسألة سياسية، بل أخلاقية وإنسانية، وحق أصيل أقرّه القانون الدولي.
لذلك، كتب الأطباء، اجتمعنا لندعو المجتمع الطبي إلى الانتباه لشهادات الفلسطينيين ولحجم هذه الكارثة من صنع الإنسان. ونحن ندرك أن مناقشة آثار العدوان على غزة قد تُساء فهمها بوصفها «معاداة للسامية»، غير أن حماية الحياد الطبي وتقييم آثار الحروب على صحة الشعوب ليست كذلك. على العكس، فهذه واجبات أخلاقية تشكلت من فشل المجتمع الطبي خلال الهولوكوست.
تتحمل الجمعيات والمؤسسات الطبية الأميركية واجبًا مهنيًا وأخلاقيًا بالاستجابة لهذه الكارثة، وهي في موقع يمكّنها من قيادة النقاشات وإصدار المواقف الأخلاقية والإرشادات، والاستماع لشهادات الضحايا والعاملين في الإغاثة. كما يمكنها إدماج دروس غزة وسواها من الكوارث البشرية في التعليم الطبي والتدريب.
إن المجتمع الطبي الأميركي يمتلك قوة مهنية وسياسية واقتصادية هائلة، ومع القوة تأتي المسؤولية. ومع تدمير مجتمع بأكمله، في الغالب بأسلحة أميركية الصنع، نحث المؤسسات الطبية الأميركية على كسر صمتها ودعم أربعة تغييرات فورية وأساسية:
ضمان وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق — من طعام وماء ووقود وكهرباء ومأوى وإمدادات طبية.
وقف إطلاق النار لتمكين هذا الوصول.
السماح غير المحدود بدخول الطواقم والمعدات والمنظمات الطبية والإنسانية إلى جميع مناطق غزة.
الإفراج عن جميع العاملين الطبيين والمخطوفين لدى الطرفين.
هذه هي الحد الأدنى من المتطلبات للامتثال للقانون الدولي — ولأخلاقيات الطب الأساسية.
نأمل أن تكف المؤسسات الطبية الأميركية عن قمع النقاش حول الدمار في غزة لمجرد أن ضحاياه «ليسوا الطرف الصحيح»، وأن تواجه الحقيقة المروعة لتدمير مجتمع بأكمله. فالمسؤولية أكبر من أن يُستمر في الصمت.
كتاب المقال:
فيــروز سيدهـوا، دكتور في الطب، وماجستير في الصحة العامة
قسم الجراحة، مستشفى سان خواكين العام، فرينش كامب، كاليفورنيا
فِرَق الطوارئ الطبية في قطاع غزة، منظمة الصحة العالمية، خان يونس، فلسطين
ياسمين أبو فريحة، دكتورة في الطب، وماجستير في الإدارة العامة
قسم التخدير، العناية المركزة، وطب الألم، مركز بيث إسرائيل ديكونس الطبي وكلية الطب بجامعة هارفارد، بوسطن
مبادرة الشرق الأوسط، مركز بلفر للعلوم والشؤون الدولية، كلية كينيدي بجامعة هارفارد، كامبريدج، ماساتشوستس
عكيفا لايبوفيتش، دكتور في الطب
قسم التخدير، العناية المركزة، وطب الألم، مركز بيث إسرائيل ديكونس الطبي وكلية الطب بجامعة هارفارد، بوسطن
نفتالي كامينسكي، دكتور في الطب
قسم أمراض الرئة والعناية المركزة وطب النوم، كلية الطب بجامعة ييل، نيو هافن، كونيتيكت.