تواصل معنا عبر الفيسبوك
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مُسافِرونَ في الحافِلةِ 480
بقلم : سمير الخَطيب
I
نَحنُ نُجيدُ فنَّ التَّظاهُرِ حتّى الإتقانِ،
أن نَحيا وِفقَ سيناريو مَكتوبٍ بِحِبرِ الضَّرورةِ،
ونَمُدَّ أيدينا في مَراسِمِ الاِضطِرارِ،
ونَنحَني — لا خُضوعًا — بَل كَي لا تَنكِسِرَ رَقَبةُ الحُلمِ.
تَعلَّمنا صَمتًا أعمَقَ مِنَ البَحرِ،
تعلّمنا أنَّ للصوتِ ميزانًا... لا يَزِنُهُ إلّا الصّمتُ حينَ يَنفَجِر.
II
لا تُخدَعنَّكم رقّةُ الغيمِ فوقَنا..
وأنَّنا قَد صِرنا أكبَرَ مِنَ الحِقدِ، أرحَبَ مِن قَبضةِ الغضبِ،
أنَّ قَلبَنا قَدِ احتَوى المَطَرَ... وغَسَلَ النُّدوبَ،
إن الحقيقةَ — يا صَديقَ اللَّيلِ —
أعقَدُ مِن خَريطةٍ رُسِمَت بِالحِبرِ على صخر الرُّخامِ.
III
ثَمَّةَ في أعماقِنا كائِنٌ يُحسِنُ التَّرَفُّعَ،
يَصفَحُ كَي لا يُشبِهَ الجَلّادَ...
لكنَّهُ لا يَغفِرُ،
يَصرُخُ لا لِيُسمَعَ، بَل كَي لا يَختَنِقَ،
يَحمِلُ إعصارًا مِنَ الكَلِماتِ... ويَكتُمُهُ،
لا يَنسى، بَل يُخبّئُ الذِّكرى كَما تُخبّأُ الحِجارةُ في حُضنِ الأرضِ،
يُخبّئُ الإهانةَ في صُندوقٍ مِنِ ابتِساماتٍ مَطلِيّةٍ بِالذَّهَبِ،
يَبلَعُ الشَّتيمةَ في كأسٍ مِنَ الحِكمةِ المُرَّةِ،
ويَقولُ لِلجَلّادِ حينَ يَعبُرُ الطَّريقَ:
"نَهارُكَ سَعيدٌ، أُستاذُ..." ويمد أيديه ليصافح
ثُمَّ يَعودُ إلى البَيتِ
لِيَغسِلَ يَدَيهِ ألفَ مَرَّةٍ وألفًا أُخرى
ولا يبرأ الجلد من سُخامها .
IV
لَسنا ضُعَفاءَ — كلّا،
لكنَّنا مُحاصَرونَ بِألفِ خَيطِ حَريرٍ... يَخنُقُ،
مُجبَرونَ على العَيشِ بَينَ مَن يَرَونَ في وُجودِنا خَطَأً،
ولا نَستَطيعُ الرَّحيلَ...
لأنَّنا نَحنُ الهَواءُ،
ونَحنُ التُّرابُ،
ونَحنُ الَّذينَ أَوجَدُوا الطَّريقَ قَبلَ أن يرسموا الخَرائِطُ.
نَقولُ: "نُسامِحُ"،
لكنَّنا لا نَنسى.
نَمُدُّ أيدينا في العَلَنِ كَالزَّيتونِ،
لكنَّنا نَضُمُّ قُلوبَنا في الخَفاءِ كَاللُّؤلُؤِ.
نَبتَسِمُ...
لا لأنَّنا نُحِبُّ، بَل لأنَّنا نُؤجِّلُ الصُّراخَ
كَي يَبقى مِنّا مَن يَشهَدُ أنَّ البَقاءَ فِعلٌ يَوميٌّ.
V
كُلَّ صَباحٍ
أجلِسُ في الحافِلةِ ذاتِها رَقمِ 480
أتَنَفَّسُ بَينَ مَقعَدَينِ:
واحِدٍ فيهِ عِطرُ الياسَمينِ مِن نافِذةِ جَدَّتي،
وآخَرَ فيهِ غبار الإسمنتِ الَّذي ظَنَّ أنَّهُ يُغيِّرُ التّاريخَ.
أنا لا أُشبِهُهُم في شَيءٍ
لكِنَّني أُجبَرُ على أن أَصيرَ ظِلَّ الظِّلِّ
كَي لا تَضيعَ هُوِيَّتي في ضَوضاءِ النَّهارِ.
VI
نَحنُ — الَّذينَ نَعيشُ على الحَدِّ الفاصِلِ بَينَ الغَضَبِ والحِكمةِ —
لا نُشفى مِنَ الجُرحِ أبدًا،
بَل نَعتادُ وُجودَهُ كَما يَعتادُ السَّجينُ على صَوتِ القُفلِ كُلَّ لَيلةٍ.
نَحفَظُ أسماءَ الشَّوارِعِ بِلِسانَينِ،
ونُحِبُّ الأرضَ بِقَلبَينِ،
ونَرتّلُ في الخفاءِ ما يُبقي نبضَنا... قيدَ البقاء.
VII
هكذا نَعيشُ —
نَنبِضُ في الخَفاءِ
ونَحتَفِظُ بِالجُرحِ كَما تَحتَفِظُ الأرضُ بِالبُذورِ
في اِنتِظارِ فَصلٍ لا يَأتي في التَّقويمِ الرَّسميِّ
لكنَّهُ مَحفورٌ في تََقويمِ الرُّوحِ... والذّاكِرةِ.
VIII
نَحنُ الَّذينَ لا نَستَطيع أن نَكونَ غَيرَ ما نَحنُ عليهِ...
حتّى لَو كَلَّفَنا ذلِكَ أن نَعيشَ على الحافَةِ أبدًا."
