تواصل معنا عبر الفيسبوك
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بقلم: رانية مرجية
مقدمة: بين الصرامة والعذوبة – حين يتكلم الزمن بلغة الفلسفة
في قصته الفلسفية “ما هو الرنين من تصفيق يد واحدة؟”، ينسج نبيل عودة عالماً تتقاطع فيه الفلسفة بالحياة اليومية، وتتجاور فيه الصرامة الأكاديمية مع العذوبة الإنسانية.
النص ليس حكاية جامعية، بل مرآة فكرية كاشفة لجوهر الإنسان في علاقته بالزمن، والمعرفة، والمعنى.
إنه درس في الوعي، وعتبة تأملية في سؤال أزلي:
هل يمكن للإنسان أن يسمع صدى ذاته وسط ضجيج الحياة؟
من هذه العتبة، يدخلنا عودة إلى عالم رمزي بديع، حيث الوقت يصبح فلسفة، والمطر يصبح تطهيرًا، والبوذية تتحول إلى استعارة عن خلاص الإنسان من عبث وجوده.
المحاضر في القصة ليس أستاذ فلسفة فحسب، بل رمز حضاري مكثّف، يُجسد فكرة أن الزمن هو نواة الوعي الإنساني.
هو في الحقيقة ضمير عقلانيّ صارم، يتعامل مع الدقيقة كما يتعامل الفيلسوف مع الفكرة: لا يُهدرها، ولا يساوم عليها.
في نظره، الوقت ليس ملكية شخصية، بل مسؤولية كونية، فمن يضيع دقيقة واحدة، يشارك في خسارة الإنسانية كلها.
هنا يضع نبيل عودة إصبعه على جرح ثقافي عربي عميق:
الاستهانة بالوقت بوصفها شكلًا من أشكال الانتحار الحضاري.
في مقابل هذا التهاون، يطرح نموذجًا مضادًا: أستاذ يرى في احترام المواعيد تمرينًا للعقل على احترام الفكرة نفسها.
إنه لا يعلّم طلابه الفلسفة بالكلمات، بل بإيقاع الساعة، لأن الفكر، عنده، لا يُولد في الفوضى، بل في الانتظام الداخلي للنفس المفكرة.
الطلاب هم تجسيد للمجتمع، لوعيه المتأرجح بين التسيّب والانبهار.
يبدأون كضحايا صرامة المحاضر، ليكتشفوا مع الوقت أن دقّته لم تكن قيدًا، بل أداة تحرير.
فالحرية لا تُمارَس في الفوضى، بل تُكتسب من خلال الانضباط الواعي.
ينجح عودة هنا في أن يجعل من العلاقة بين الأستاذ وطلابه مجازًا للنهضة العربية الغائبة:
فمن دون احترام الزمن والعقل، لا يمكن أن يولد فكر، ولا حضارة، ولا فلسفة.
وحين يتبنّى الطلاب لاحقًا “توقيت محاضر الفلسفة” كمعيار لحياتهم، ندرك أن الأستاذ لم يعلّمهم فقط التفكير، بل غرس فيهم فلسفة الحياة نفسها.
تحول التعليم إلى طقس وجوديّ، والالتزام إلى هوية فكرية.
حين يهطل المطر، يتبدّل المشهد النفسي:
ذلك الرجل الحديدي الذي يقيس الوقت بالدقيقة، يلين.
المطر عند عودة ليس مجرد طقسٍ طبيعي، بل تجلي روحي.
إنه الغفران السماويّ الذي يُعيد التوازن إلى الفيلسوف الصارم.
تتحوّل لحظة المطر إلى لحظة كشف إنساني:
حتى أكثر العقول عقلانيةً تحتاج إلى لمسة من الدفء الإنساني.
هنا يكتمل المعنى العميق للنص:
الصرامة الفكرية لا تكتمل إلا حين تعانقها رحمة الروح.
المطر يُطهّر، لا الأرض فحسب، بل العقل من غلوّ المنطق.
فهو يذكّرنا بأن الإنسان لا يُقاس بعدد أفكاره فحسب، بل بقدرته على أن يظلّ إنسانًا رغم أفكاره.
ينقلنا عودة إلى الدرس الفلسفي في جو من الحوار النابض.
يتحدث عن البوذية وشوبنهاور، وعن الألم بوصفه جوهر الوجود.
كلاهما، البوذية والفيلسوف الألماني، يتفقان على أن الحياة دائرة من الألم والرغبة، وأن الخلاص يكون في قمع الإرادة.
لكن عودة لا يقدّم هذه الفلسفات ببرودٍ أكاديمي؛ بل يكسوها بروح الحكاية الشعبية.
أسطورة الأمير الصامت هي تلخيص عميق لمأساة الإنسان حين يؤجّل الحياة من أجل المثال.
الأمير الذي ينتظر ثماني سنوات ليقول “أحبك” يرمز إلى الوعي المؤجّل، الرغبة المكبوتة، الفعل المؤخر حتى يفقد معناه.
إنها نقد ساخر للفلسفة التي تدعو إلى كبت الحياة باسم النقاء.
في ضحك الطلاب على مأساة الأمير، تتجلى رؤية نبيل عودة الساخرة للحياة:
“الفلسفة حين تنفصل عن القلب، تتحول إلى عبث.”
الحكمة لا تُقاس بالصمت، بل بالقدرة على النطق في اللحظة المناسبة.
في النهاية، يختتم النص بسؤال الطالبة مروة:
“ما هو الرنين من تصفيق يد واحدة؟”
هذا السؤال ليس لغزًا، بل دعوة إلى تجاوز اللغة ذاتها.
إنه كوان بوذيّ يُراد به تفجير الوعي، لا تقديم إجابة.
فالتصفيق بيدٍ واحدة لا يصدر صوتًا ماديًا، لكنه يصدر رنينًا داخليًا في الوعي.
إنه صوت الذات حين تصغي إلى نفسها،
صوت الفكر عندما يلتقي بالصمت.
هذا السؤال يعيدنا إلى جوهر القصة:
الزمن، والعقل، والانضباط، والمطر، كلها أدوات للبحث عن الرنين الداخلي – عن الوعي الصافي الذي لا يُقاس بالضجيج، بل بالحضور.
وهكذا ينتهي النص لا بنقطة، بل بدائرة تأملية، تفتح القارئ على اللانهائي.
إنها ليست نهاية قصة، بل بداية يقظة.
في هذا العمل، يظهر نبيل عودة ككاتب يزاوج بين صرامة الفكر الألماني (شوبنهاور، كانط، هيغل)
وروح الدعابة الشرقية التي تخفف ثقل الفلسفة لتجعلها إنسانية.
لغته غنية بالتفاصيل اليومية، لكنها محمّلة بطبقات رمزية.
يُحاور النص القرّاء بذكاء: من جهة يسحرهم بسردٍ واقعيّ، ومن جهة أخرى يدفعهم إلى التأمل في قضايا الوجود الكبرى.
بهذا المعنى، يصبح عودة جسرًا بين الفلسفة والأدب، بين الشرق والغرب، بين الفكرة والوجدان.
إنه يكتب ليذكّرنا أن الفلسفة ليست في الكتب، بل في نبرة الصوت، في دقّة الموعد، في قطرة المطر، في الصمت بين تصفيقتين.
إن “الرنين من تصفيق يد واحدة” ليس سؤالًا فلسفيًا وحسب،
بل هو دعوة إنسانية إلى الإصغاء إلى الذات في عالمٍ يضجّ بالضجيج.
هو تذكير بأن المعنى لا يُولد من الحوار الخارجي، بل من التناغم الداخلي بين الفكر والروح.
في النهاية،
الفلسفة عند نبيل عودة ليست تنظيرًا ولا تدريسًا،
بل أسلوب حياة، ووعيٌ بالزمن، وحضورٌ في اللحظة.
هي تلك اليد الواحدة التي تُصفّق في صمتٍ،
فتخلق رنينًا لا يُسمع،
لكنه يوقظ الروح من سباتها.